تفاصيل الخبر
برتراند راسل الفيلسوف والمؤرخ .. قراءات في سيرته ونماذج من كتاباته
2020-02-02
برتراند راسل الفيلسوف والمؤرخ .. قراءات في سيرته ونماذج من كتاباته
عَقَد قسم الدراسات التاريخية في بيت الحكمة، وبالتعاون مع كلِّية الآداب – جامعة بغداد، يوم الأحد المُوافق 2/2/2020م في الساعة العاشرة صباحاً، ندوته العلمية المعنونة: (برتراند راسل الفيلسوف والمؤرِّخ.. قراءاتٌ في سيرتهِ ونماذج من كتاباتهِ ) على قاعة مركز الآشوريات العراقي – الألماني في الكلِّية المذكورة. هذهِ الندوة التي أُقيمت بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاة الفيلسوف والمؤرِّخ والرياضي الإنكليزي برتراند آرثر ويليام راسل Bertrand Arthur William Russell (1872-2/2/1970م).
وقد ترأس الجلسة الأستاذ المساعد الدكتور علي عبود المحمِّداوي، التدريسي بقسم الفسلفة في كلية الآداب، وبمقررية الباحث في قسم الدراسات التاريخية الدكتور حيدر قاسم مَطَر التميمي، وكان المشاركون في هذهِ الندوة العلمية هم كلٌّ من:
1. أ.م.د. أنس إبراهيم العبيدي. جامعة بغداد – كلية الآداب / قسم التاريخ.
2. أ.م.د. محمد فاضل عباس. جامعة بغداد –كلية الآداب / قسم الفلسفة.
3. أ.م.د. كريم موسى حسين. جامعة بغداد –كلية الآداب / قسم الفلسفة.
افتتح السيد رئيس الجلسة وقائع الندوة بالترحيب بالسادة الحضور، مشيداً بدور بيت الحكمة في الاستمرار على صبِّ جُلَّ اهتمامهِ لمُعالجة أبرز وأهمِّ القضايا التاريخية والفكرية والدينيَّة والاجتماعية. كما أشار في مطلع مقدمتهِ التي افتتح بها وقائع هذهِ الندوة العلمية، إلى أنَّ مَن كان يرغب في رؤية أثر راسل، ليتلفَّت حوله ويتأمَّل الفلسفة الموجَّهة إلى عامة الناس الصادرة باللغة الإنجليزية منذ السنوات التي تفصل الحربين العالميتين. وليتأمل كذلك المنطق وفلسفة الرياضيات والمناخ الأخلاقي المختلف في العالم الغربي في القرن العشرين، والمحاولات الرامية إلى إعاقة انتشار الأسلحة النووية. إذ يجب أنْ يُشير التاريخ الكامل لأيٍّ من هذهِ الموضوعات إلى راسل.
ففي بعض هذهِ المجالات يكون راسل مشاركًا من بين مشاركين آخرين؛ فعلى سبيل المثال، لم يكن وحده هو المسئول عن إحداث تغيير جذري في الأخلاق في القرن العشرين. لكنه كان أقرب إلى دائرة الأضواء في حملة نزع السلاح النووي؛ إذ كان من المشاركين في حركة مناهَضة الحرب التي نشأت إبَّان الحرب العالمية الأولى.
ولكن مكانته في الفلسفة محورية، حتَّى إنَّه أصبح تقريبًا السِمَة المشتركة في تاريخ الفلسفة. ويواصل خلفاؤه من الفلاسفة عملهم الفلسفي بأسلوبهِ؛ إذ يتصدَّوْن للمشكلات التي حددها أو التي منحها شكلًا معاصرًا باستخدام الأدوات والأساليب التي ابتكرها، وكلَّها تنسجم مع الأهداف والافتراضات التي أقرها. ومن دلائل التغلغل غير العادي لتأثيرهِ أنَّ الكثيرين من بين الأجيال الشابَّة من فلاسفة القرن العشرين نادرًا ما يُدركون أنَّ الفضل في كلِّ هذا يعود إليه. ولهذا وغيره من الأسباب والعوامل، فإننا نشيد بمبادرة مؤسَّسة بيت الحكمة إلى استذكار هذهِ الشخصية الفذَّة في تاريخ الفكر الإنساني المعاصر.
الباحث الأول ضمن هذهِ الندوة العلمية، كان الأستاذ المساعد الدكتور أنس إبراهيم العبيدي، الذي حاول من خلال ورقتهِ البحثية أن يقدم تصوراً شاملاً ومختصراً عن أبرز المحطَّات الفاصلة والمهمة في مسيرة حياة (راسل) الشخصية والمهنية على حدٍّ سواء. ليبدأ التفصيل بحديثهِ عمَّا كان له من دور وإنجازات متميزة ورائدة في مجال الدراسات التاريخية.
مبيناً أنَّه من الصعوبة بمكان تقييم أثر راسل في الفلسفة الغربية اليوم. ففي الأربعينيات والخمسينيات كان راسل الفيلسوف الأكثر شهرةً على الإطلاق؛ ومع الستينيات تراجعت مكانته نتيجة الهجوم الذي شنَّه فلاسفة اللغة العادية عليه. في السبعينيات، أصبح تراثه المتعدد الاتجاهات مؤثراً في دراسات المنطق واللغة، ولكن لم يكن أحدٌ قادراً على تكوين صورةٍ عامة عن دورهِ ومركزهِ في تاريخ الفلسفة. بعد عَقدين، يعود الفلاسفة باستمرار إلى آرائهِ في الحقيقة وواحدية الوجود (أي أنَّه يوجد مادة واحدة يتكون منها الوجود). وإلى اليوم، تتباين رؤية الناس في تقييم عملهِ ومكانتهِ سواءٌ في اللغة أو المنطق أو الإبستمولوجيا أو السياسة والأخلاق.
في بدايات القرن العشرين، تأثَّر راسل بصديقهِ الفيلسوف جورج إدوارد مور George Edward Moore (1873-1958م)، وقادا معاً ثورة أنهت السيطرة القصيرة للهيجلية بنسختها الإنكليزية في بريطانيا. في الوقت نفسهِ تقريباً، بدأ راسل بدراسة الأعمال المنطقية للفيلسوف الألماني غوتلوب فريجه Friedrich Ludwig Gottlob Frege (1848-1925م). ومن هنا وُلد المنطق الحديث، من أعمال فريجة وراسل. من جهة، تُنسب الفلسفة التحليلية إلى مور وراسل؛ ومن جهةٍ أخرى، يُنسب المنطق الحديث إلى فريجة وراسل.
بعد حوالي عَقدين، تأسَّست الوضعية المنطقية في فيينا، مُستلهمةً أعمال راسل وتلميذه فتجنشتين Ludwig Josef Johann Wittgenstein (1889-1951م) بشكلٍ رئيس. ومنذ الثلاثينيات، هاجمَ كارل بوبر Sir Karl Raimund Popper (1902-1994م) الوضعية المنطقية بشدَّة، ليكون عمله أحد أسباب نهايتها في الستينيات؛ ولكن (بوبر) نفسه كان متأثراً بعمق براسل. أمَّا نعوم تشومسكي Avram Noam Chomsky، مؤسِّس القواعد التوليدية وعدو التجريبية الأول، فيرى في فلسفة راسل في نظرية المعرفة وفي أعمالهِ السياسية ملهماً دائماً. مبيناً – الباحث – أنَّ هذا غيضٌ من فيض من تأثير راسل في الفلسفة.
أمَّا عن أبرز ما قدم راسل في الدراسات التاريخية، فقد أشار الباحث إلى كتابهِ الشهير، المعنون: (تاريخ الفلسفة الغربية)، الذي يتكون من ثلاثة أجزاء، الأول يتناول الفلسفة قبل أرسطو، والثاني يغطي الفلسفة في العصور الوسطى، والثالث يشمل عصر النهضة وحتَّى القرن العشرين. والعمل برمَّتهِ تأريخ للفلسفة، ومهم لتأسيس وعي فلسفي يسمح بفهم الأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية التي حكمت العالم عِبرَ العصور. لكن الجديد المختلف الذي يقدمه هذا الكتاب، ليس مع الفلسفة في مصدرٍ واحد، إنَّما محاولة ربطها بعلاقة السبب والنتيجة بعضها ببعض، حتَّى يتمكَّن قارئها من تشكيل صورةٍ متكاملة عن مسيرة الفكر الإنساني وتطورهِ، وأثره في الأحداث التي عاشها البشر حتَّى اليوم. وبهذهِ الطريقة يكشف العمل نشأة الفلسفة ولا يكتفي بمجرد سردها، ويبين آلية تطور الفيلسوف وتأثره بالآراء والأفكار من حولهِ، وتمهيده لتطوير فلسفي في المستقبل أيضًا.
كما ذكر الباحث أنَّ هذا العمل كان قد احتاج إلى أكثر من الفلسفة وحدها، فالغاية منه هو فهم آلية نشوء وتطور الفكر، ما دفع الكاتب إلى إضافة فصول تتعلَّق بالتاريخ الاجتماعي والديني، حتَّى يتمكَّن القارئ من فهم سبب شيوع أفكار معينة في كل عصرٍ من العصور. كما يُخرج هذا الكتاب الفلسفة من إطارها الأكاديمي البحت، الذي يقصر صورتها على النظريات وما شابه، ويضعها ضمن سياقها الاجتماعي العام، ليُبرز الترابط بين الفكر الفلسفي والمجتمع. ولتعتمد هذهِ المنهجية على نظرة راسل للفلسفة، إذ يراها مجالًا وسطًا بين اللاهوت والعِلم، تحاول الإجابة عن الأسئلة التي عجز العِلم عن تفسيرها، وتعتمد مبدأ النقاش العقلي عوضًا عن المشاعر الإيمانية العاطفية التي يعتمد عليها اللاهوت في إجابتهِ؛ لذلك يجد القارئ في هذا الكتاب بحثًا معمقًا في الفلسفة من وجهة نظرٍ دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وكل ما من شأنهِ أنْ يؤثر في تفكير الإنسان.
الباحث الثاني، كان الدكتور محمد فاضل عباس، الذي تناول موضوع الدين في فلسفة راسل. محاولاً حصر هذا الموقف وتحديده بنقاطٍ ثلاث:
أولاً: موقفه الفكري من الدين. حيث كان راسل عقلانياً على الدوام، ويتصف موقفه من الدين بهذهِ العقلانية. فالقراءة العقلاينة تجعله يرى في الإيمان الديني بالآلهة أو بتفوق الأنبياء مواقف لا عقلانية. ولكن لم يكن راسل ملحداً بالضبط لأنَّه عقلاني؛ كان لا-أدرياً يرى أننا لا نملك أجوبة قاطعة ونهائية، أو براهين معقولة، في قضايا ما ورائية تتعلَّق بالموت ووجود الآلهة وغيرها. بحسب راسل، الإلحاد، كالإيمان، مواقف لا عقلانية ولا تستند إلى دليل.
ثانياً: يرى راسل في الدين، تحديداً في شكلهِ المؤسَّساتي القائم، عقبة في وجه أيِّ تقدمٍ أخلاقي أو فكري. فالدين قائم على الخوف، وعلينا مواجهة المؤسَّسات الدينية التي تنشر الجهل والقسوة، مستندةً إلى الخوف. ومن القول إنَّ الدين لم يقدم أي مساهمات في الحضارة؛ على العكس، كان يراه دوماً محركاً وأداةً لإشباع الدوافع الوحشية عند البشر. وفقط انتشار العِلم والتفكير العقلاني سيحدُّ من هذهِ الآثار المدمرة، ويهذِّبها قدر المُستطاع.
ثالثاً: دافعَ راسل عن حق المؤمنين والمتدينين في نشر أفكارهم وطرحها ونقاشها، كما دافع عن حق الملحدين واللا-أدريين في الأمر نفسهِ. مؤكداً على عدم جواز قمع مَن يحمل معتقداتٍ مختلفة. والنقطة التي حاول الباحث التشديد عليها هنا، هي التالية: رفض راسل بشدَّة قمع الاتحاد السوفييتي للمؤمنين، على الرغم من كون راسل نفسه لا-أدرياً. فقد دافع راسل عن حق الملحدين واللا-أدريين في الدفاع عن آرائهم وطرحها في المجتمعات الغربية، التي لم تكن في ذلك الزمن تقبل بمثل هذهِ الآراء.
موقف راسل إذن مركَّب، يجمع بين العقلانية والحرية. الموقف العقلاني يقتضي أنْ يقف المرء عند حدود العقل، أي حدود التجربة والأدلة والبراهين، العقلية والتجريبية. ويبدو أننا في معظم الأمور الميتافيزيقية ما زلنا نجهل طريقنا ونقف كما كان أجدادنا مندهشين من الموت والحياة وأسرارهما. لذا، على المرء أنْ يمتنع عن الجواب في هذهِ الأمور. ولكن لا يعني هذا أنْ يخفي المرء أو يشكَّ بما يستطيع العقل إثباته.
علينا إذن أنْ نميّز بين اللا-أدرية والإيمان والإلحاد من جهة، وبين النتائج العملية للدين المؤسَّساتي المنظَّم من جهةٍ أخرى. يهاجم راسل وبشدة الدين المنظَّم، في حين أنَّه يترك الأمور الروحية للإيمان الفردي، ويدافع عن حرية الأفراد في اختيار ما يرونه مناسباً لهم، رافضاً بشكلٍ قاطع القمع المُمَارس باسم العقل والعقلانية. مهما كان إيمان المرء نفسه، عليه أن يدافع دوماً وبحماسة عن المقموعين والمظلومين. لا يحق لأيِّ سلطةٍ أنْ تفرض آرائها الدينية على البشر، ولا فارق إنْ كانت السلطة علمانية أم دينية. في كِلا الحالتين، تتعدَّى السلطة على حريات الأفراد والمجموعات، بشكلٍ لا شرعي وغير مقبول وغير مبرر، عندما تحاول أنْ تفرض رأياً واحداً على الناس، هو رأي السلطة.
ثالث الباحثين المشاركين في هذا النشاط العلمي، هو الأستاذ المساعد الدكتور كريم موسى حسين، مبتدئاً حديثه بقول الفيلسوف جول فييمان أنَّ الفلسفة المعاصرة بدأت بكتاب (مبادئ الرياضيات) من تأليف راسل. عاداً فلسفة راسل وثيقة الصلة أيضًا بالمنطق الذي قدَّمه «فاسم راسل ملازم للمنطق الرياضي، الذي يدين له بالكثير»، لاسيَّما نظرية الأوصاف ونظرية الأنماط.
فصَّل الدكتور حسين في موضوع ابتكار راسل لنظرية الأنماط بغية التغلب على التناقضات الظاهرية التي اكتشفها وهو يحاول إرساء الرياضيات على أُسسٍ منطقية. مبيناً أنَّه أثناء جهودهِ لحل هذهِ المشكلة ناقش عددًا من البدائل، بما فيها بديل كان من قبيل المفارقة له الفضل في تأسيس نظرية المجموعات — في رؤيةٍ استنبطها إرنست زيرميلو Ernst Friedrich Ferdinand Zermelo (1871-1953م) — التي حلَّت محلَّ النظرية التي ابتكرها راسل في نهاية الأمر. ولكن نظرية الأنماط التي وضعها كان لها تأثيرٌ هائل في الفلسفة. وفكرتها المحفزة استعانَ بها أتباع الوضعية المنطقية إبَّان العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في شنِّ هجومهم على الميتافيزيقا.
كما رشَّح الباحث أنَّ أول محاولة مهمة لراسل تهدف إلى إمداد الرياضيات بأُسسٍ منطقية لتكون بوتقة الفلسفة التحليلية. بمعنى أنَّ راسل حدد فيها — في شكل مبدئي وأحيانًا غير مكتمل — المناهج والمشكلات الأساسية.
وفي تناولهِ لواحدٍ من أبرز مؤلَّفات راسل الفسلفية، التي تتناول الرياضيات والمنطق بالبحث والدراسة، يُبين أنَّه يبدأ الفصل الثاني من كتابهِ «معرفتنا بالعالم الخارجي» بالتأكيد على أنَّ مشكلات الفلسفة كلها تُختزل — ما دامت فلسفية بحق — في مشكلات المنطق، ويقصد بهذا أنَّه يمكن توضيح المشكلات الفلسفية وحلها بتطبيق أساليب المنطق الرياضي الأوَّلي؛ ممَّا «يساعدنا على التعامل بسهولة مع المزيد من المفاهيم المجردة بما يفوق قدرة الاستدلال اللفظي على إحصائها؛ وهي تقترح افتراضات مثمرة ما كان لها أنْ تخطر على بالنا في ظروفٍ أخرى؛ وهي تساعدنا على أنْ نُدرك بسرعةٍ أصغرَ مقدارٍ من المواد يمكن بهِ بناء صرح منطقي أو علمي». وبصفةٍ خاصة، فإنَّ نظريات الإدراك والمعرفة التي يواصل تقديمها في الفصول التالية من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» «ألهمها المنطق الرياضي ولم يكن من الممكن تصوُّرها من دونهِ قط».
اختُتمت الندوة بمُداخلاتٍ وتعقيبات عرضها السادة الحضور من التدريسيين والأكاديميين، بمختلف اختصاصاتهم، من الجامعة المستنصرية. والتي أسهمت في إغناء وتعزيز الموضوعات والإشكاليات البحثية التي طُرحت خلال هذا النشاط العلمي.
وأخيراً فلا بدَّ من الإشارة أنَّ هذهِ الندوة تأتي في سياق توجه قسم الدراسات التاريخية في بيت الحكمة، وتمثيلاً لأحد أهدافهِ، في استذكار العلماء والمفكِّرين والمؤرِّخين الذين كان مدادهم في ميدان العِلم منهجاً في بناء مجتمعٍ ناضج ومنتج.
المزيد من الاخبار