اللغة العربية بين الدراسات الاستشراقية والبحوث الاستشرافية
2018-12-18
الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية
(اليوم العالمي للغة العربية 18/12/1973-2018م)
تُعدّ اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على (400) مليون نسمة من سكَّان المعمورة.
وقد أبدعت اللغة العربية بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعاميَّة، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آياتٍ جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر الهندسة والشعر والفلسفة والغناء. وتُتيح اللغة العربية الدخول إلى عالمٍ زاخر بالتنوع بجميع أشكالهِ وصورهِ، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمُعتقدات. ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبيّن الصِلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعَددٍ من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزاً إلى إنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوربا في عصر النهضة. وأتاحت اللغة العربية إقامة الحوار بين الثقافات على طول المسالك البرية والبحرية لطريق الحرير من سواحل الهند إلى القرن الأفريقي.
وإذ تدعم منظَّمة اليونسكو الفنانين والمبدعين والباحثين والصحفيين الذين يعملون على إعلاء شأن اللغة العربية. كما تعتزم الاستعانة بهذهِ اللغة من أجل الذَّود عن الكرامة والمُساواة والحرية، ومن أجل تحقيق المُساواة بين الرجال والنساء.
وتنظّم اليونسكو، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية UN Arabic Language Day، سلسلةً من الأنشطة والحفلات والحلقات في مقرها بمدينة باريس وفي سائر أرجاء العالم من أجل التشجيع على البحث اللغوي وعلى تحديث المعاجم والقواميس العربية، وإبراز الروابط الموجودة بين اللغة العربية والعلوم، وكذلك الإمكانيات التي تُتيحها التكنولوجيات الجديدة من أجل نشر هذهِ اللغة الجميلة وتعلمها.
يُذكر أنَّ الاحتفال باللغة العربية جاء بعد اقتراحٍ قدَّمته المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية، خلال انعقاد الدورة (19) للمجلس التنفيذي لمنظَّمة اليونسكو، وصدر قرار الجمعية العامة في ديسمبر 1973م، موصياً بجعل اللغة العربية لغةً رسمية للجمعية العامة وهيئاتها، ولغات الأمم المتحدة الرسمية الست، هي: الروسية، الصينية، الإسبانية، الإنكليزية، الفرنسية، والعربية.
وبهذهِ المناسبة المميزة، عَمَد قسم الدراسات التاريخية في بيت الحكمة – وبالتعاون مع قسم اللغة العربية في كلِّية الآداب / الجامعة العراقية – إلى إحياء هذهِ المناسبة والاحتفاء بها، وذلك من خلال إقامة احتفاليةٍ كبرى ضمَّت نشاطاتٍ ثقافية وعلمية متعددة ومتنوعة، ليكون منهاج الاحتفالية كالآتي:
أولاً: افتتاح السيد رئيس الجامعة العراقية معرضاً لمطبوعات بيت الحكمة ومنشوراته المتنوعة، ذات العلاقة باللغة العربية وعلومها، وافتتاح معرضاً للصور أُنشئ تحت عنوان: (من ذاكرة الضاد في كلِّية الآداب). يوثق من خلاله نشاط هذهِ الكلِّية واهتمامها على مدى أكثر من خمس سنواتٍ بهذهِ المناسبة المهمة.
ثانياً: الجلسة الافتتاحية، التي تضمَّنت كلمات السادة رئيس الجامعة العراقية وعميد كلِّية الآداب، سبقتها تلاوة آيٍ من الذكر الحكيم، ولتختمها قصيدة للشاعر الدكتور حسين نعمة، بعنوان: (للعربية في عرسها الأغر).
ثالثاً: الجلسة العلمية: والتي ترأسها الأستاذ الدكتور يوسف خلف محل، وتولَّى مقرريتها الباحث في بيت الحكمة سلوى محمد جاسم، وتضمَّنت إلقاء ثلاثة من أساتذة اللغة العربية في الجامعة العراقية أوراقهم البحثية بهذهِ المناسبة.
كان أول المشاركين الأستاذ الكبير الدكتور فاضل صالح السامرائي، بورقتهِ المعنونة: (واقع اللغة العربية في المجتمع). الذي أشار في البدء كيف أنَّ اللغة العربية أثبتت أنَّها لغةٌ مطواعة وثرية بحيث تتمكَّن من التماهي مع العصر ومتغيراتهِ. هذهِ اللغة التي كانت أدواتها القصيدة في مخاطبة الرأي العام من على منبر سوق عكاظ وفي موسم الحج بمكَّة، هي ذات اللغة التي خاطبنا بها الرسول الكريم () ونزل بها القرآن الكريم، وهي نفسها التي استعملتها البشرية لقرونٍ عدَّة إبَّان العصر الذهبي للحاضرة الإسلامية كلغة العلم بلا منازع في شتَّى الفنون من رياضياتٍ وفيزياءٍ وكيمياءٍ وهندسةٍ وفلسفة.. الخ، وهي نفسها اللغة التي نتواصل بها في شبكات التواصل اليوم. وبالتالي فإنها أشبه بكائن حي يتطور ويتأقلم ويتفاعل مع ظروفهِ.
وإجابةً عن التساؤل الذي فتئ يُطرح خلال عقودٍ من الزمان مضت: إلى أيِّ حدٍّ تستطيع اللغة العربية مقاومة مدِّ اللهجات التي ما فتئت تكتسح المدرسة والإعلام فضلاً عن الفضاءات العامة ؟ يُجيب السامرائي بالقول: إنَّ اللهجات ليست حديثة، ولا تختص باللغة العربية ومجتمعاتها، ولكنها أكثر وضوحاً داخل البيئة العربية. وهي قديمة، بقِدم اللغة، وربما ساعد على تشكلها طبيعة البيئات المعزولة داخل الجزيرة العربية، وهي كانت بمثابة اللغات آنذاك. ولا يجب أن نشغل أنفسنا بوجود اللهجات من عدمها، ولكن يجب أن يقتصر الخطاب الموجَّه للرأي العام الذي يتجاوز حدود اللهجة على العربية الفصيحة المشتركة التي يفهما العرب من المحيط إلى الخليج.
وعن إشكالية التوفيق بين ضرورة الحفاظ على اللغة العربية كلغةٍ أصيلة، وبين إكراهات الانفتاح والمرونة التي يطرحها استيعاب المستجدات على مستوى كافَّة مجالات المعرفة الإنسانية. يوضح الباحث أنَّ الأمر ليس مستحيلاً، فمثلما يحافظ الصينيون واليابانيون و... على لغاتهم القومية يمكن لنا أن نسلك نفس الطريق. الصيني يقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ويتحدث بالصينية ويُجبر بقية الوفود على استخدام الترجمة لفهمهِ. وكذلك يفعل المتحدثون باللغة العبرية الذين لا يزيد عددهم عن بضعة ملايين في العالم، بينما يقف السياسي العربي متحدثاً بإنكليزية أو فرنسية (مكسَّرة) من أجل أن يُقال إنه يفهم لغاتٍ أجنبية، وأنه متحضر. الفرق الوحيد بيننا وبين غيرنا هو مستوى احترامنا للغتنا. مشكلة اللغة العربية هي في المتحدثين بها وليس في ذات اللغة.
الباحث الثاني المشارك في هذهِ العلمية، هو الأستاذ الدكتور محمود شلال حسين، والذي حاول من خلال ورقتهِ البحثية بيان ملامح اهتمام الدراسات الاستشراقية باللغة العربية، مشيراً إلى أنَّ من أبرز اهتمامات المستشرقين دراسة اللغة العربية وآدابها، وبخاصة فقه اللغة الذي كان المدخل لكثير من المستشرقين للكتابة في مجالات كثيرة. ومن الأمثلة على ذلك المستشرق هاملتون جب، وكذلك المستشرق ماسينيون، والمستشرق سلفستر دي ساسي، الذي أسَّس مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس، وكانت بمثابة قِبلة المستشرقين في ذلك الزمن، ومن خلال اهتمام المستشرقين باللغة العربية وآدابها نادى بعضهم بالاهتمام باللهجات المحلية، وما يُسمَّى بالفلكلور، حتَّى إنهم أقنعوا كثيرًا من الطلَّاب العرب والمسلمين بإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه حول اللهجات المحلية والفلكلور، ودعا بعض المستشرقين أيضًا إلى العامية، ووضع قواعد خاصة بها؛ بحجَّة صعوبة اللغة الفصحى، أو أنَّها قديمة، أو كلاسيكية غير صالحة في الوقت الحاضر، بل إنَّ بعض المستشرقين نادوا بكتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية.
مبيناً كذلك إلى أنَّ الاهتمام بالأدب العربي الحديث قد ازداد على مرِّ السنين؛ فهناك أكثر من دورية تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا، تتخصَّص في الأدب العربي أو الدراسات العربية؛ فهناك مثلاً: المجلَّة الدورية للدراسات العربية Arab Studies Quarterly، ومجلَّة المختار في دراسات الشرق الأوسط Digest of Middle East Studies التي بدأتْ في الصدور منذ عشر سنوات، ومجلَّة آداب الشرق الأوسط أدبيات Middle East Literature (Literary Articles)، التي تتعاون في إصدارها جامعة أكسفورد البريطانية، وجامعة داكوتا الشمالية بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت في الصدور منذ عام 1996م.
وأنَّ من القضايا التي اهتم بها الاستشراق كذلك استخدامُ اللغة الفصحى في الإبداع الأدبي، سواءٌ كانت قصة، أم رواية، أم مسرحية، وقد جعلوا هذهِ القضية من القضايا التي أولوها اهتمامًا كبيرًا.
أما الباحث الثالث، فكان الأستاذ المساعد الدكتور محمود فوزي عبد الله، بورقتهِ البحثية المعنونة: (مشهد الأعراف –في حلَّةٍ غربية جديدة). ابتدأ الباحث بحثه بمقولةٍ للمستشرق (مونتجمري وات) في كتابهِ (الإسلام والمسيحية اليوم): ((لست مسلماً بالمعنى المألوف، ومع ذلك فإني أرجو أن أكون مسلماً، كإنسان أستسلم لله، بيد أني أعتقد أنَّ القرآن وغيره من تعبيرات المنظور الإسلامي، ينطوي على ذخيرةٍ هائلة من الحق الإلهي، الذي ما زال يجب عليَّ أنا وآخرين من الغربيين أن نتعلَّم منه الكثير )). يقول الباحث: لقد أثار انتباهنا حول مسألة التأثر بين الأدب الإسلامي العربي الشرقي والأدب الغرب، ومن هذهِ الأعمال المتأثرة عمل دانتي المشهور والموسوم بـ(الكوميديا الإلهية) الذي تُرجم إلى لغاتٍ عديدة لما ترك من أثر في نفوس متلقية، وقد أظهرت الدراسات أنَّ هذا العمل – الكوميديا الإلهية – متأثرة بالأعمال الإسلامية، فقد أشارت دراسات كثيرة إلى أنَّ هناك نصوصاً إسلامية قد تُرجمت إلى اللغات الأجنبية، ومن هذهِ النصوص قصة الإسراء والمعراج المذكورة في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وقد دارت ضمن أحداث الإسراء والمعراج حادثة رؤية رسول الله مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لجهنَّم ورؤية هؤلاء المعذبين فيها وتساؤله عنهم وعن حالهم، وكان جبرائيل عليه السلام يرد عن تساؤلات النبي مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولهذهِ الأحداث ترابط مع قصة أصحاب الأعراف المذكورة في القرآن الكريم بما لها من دلالاتٍ لغوية عميقة كان لها الأثر البالغ والواضح في الأدب الإنساني ككل، لا العربي فحسب.
وفي الختام، نود الإشارة إلى أنَّ مجموعةً أخرى من الأساتذة من المختصين بعلم اللغة العربية والتاريخ، كان لهم مشاركات بحثية ومداخلات قيمة خلال هذهِ الجلسة العلمية، نذكر منهم: أ.د. ليث شاكر محمود؛ أ.م.د. معمر منير مسيهر؛ أ.د. جبير صالح حمادي؛ أ.د. صفاء الدين أحمد فاضل؛ أ.م.د. محمود شلال حسين.
|