الموصل حضارةٌ وفِكر قراءاتٌ تاريخيَّة وســياســيَّة
2017-05-16
ندوة اقامها قسم الدراسات التاريخية
الموصل حضارةٌ وفِكر
قراءاتٌ تاريخيَّة وســياســيَّة
عَقَد قسم الدراسات التاريخية بالتعاون مع الجمعية التاريخية العراقية يوم الأربعاء المُوافق 26/4/2017م، ندوته العلمية الموسومة بـ: (الموصل حضارةٌ وفكر.. قراءاتٌ تاريخية وسياسية)، على قاعة الندوات في بيتِ الحكمة، حيث كان المشاركون في هذهِ الندوة العلمية هم كلٌّ من:
1. أ.د. محمد طه الأعظمي (قسم التاريخ / كلِّية الآداب / الجامعة العراقية).
مكتبة مدينة خرسباد (دور – شروكين) في نينوى وإسهاماتها المعرفية
2. أ.د. نذير جبار الهنداوي (قسم التاريخ/ كلِّية الآداب / جامعة بغداد).
روابط الموصل مع ولايتي بغداد والبصرة في العهد العثماني.. دراسة في التاريخين الاجتماعي والاقتصادي
3. أ.د. فلاح حسن الأسدي (قسم التاريخ/ كلِّية الآداب / جامعة بغداد).
قانونية عائدية الموصل بعد داعش.. قراءة في كتاب (مشكلة الموصل) للدكتور فاضل حسين
4. أ.م.د. جلال كاظم الكناني (رئيس قسم التاريخ/ كلِّية الآداب / الجامعة المستنصرية).
بريطانيا ومشكلة الموصل
5. أ.د. إبراهيم العلاَّف (كلِّية الآداب / جامعة الموصل).
جامعة الموصل ومراكزها الفكرية.. مركز إشعاع ودليل إنتماء
6. أ.د. عبد الجبار أحمد (كلِّية العلوم السياسية / جامعة بغداد).
الدبلوماسية العراقية والمخاوف التركية
7. أ.د. محمود عبد الواحد القيسي (معاون عميد كلِّية الآداب للشؤون العلمية / جامعة بغداد).
الموصل بين العراق المُصطنع والعراق المُتخيل
8. أ.م.د. إسماعيل طه الجابري. رئيس الجلسة.
9. د. حيدر قاسم مَطَر التميمي مقرر الندوة
افتتح السيد رئيس الجلسة وقائع الندوة بالترحيب بالسادة الحضور، مُشيداً بدور بيت الحكمة في الاستمرار على صبِّ جلَّ اهتمامهِ لمعالجة أبرز وأهمِّ القضايا التاريخية والفكرية والتي من شأنها خدمة الحركة العلمية في العراق.
أمَّا عن موضوع الندوة وأهميتهِ بصورةٍ عامة، فقد بيَّن أنَّ الموصل تتميز بمكانةٍ خاصة ليس في التاريخ فقط وإنَّما في الجغرافيا أيضاً، وربما من النادر أن تلعب الجغرافيا دوراً في رسم مدينةٍ كما لعبت في الموصل وجوارها. وأضاف أنَّ المدينة لعبت دوراً مشتقاً من أسمها في التواصل بين أقاليمٍ شتَّى ودولٍ شتَّى، وكان قدرها أن تكون موصلة بين عددٍ من الأقاليم ومهمة بالنسبةِ لكلِّ تلك الأقاليم. وأكَّد أنَّ المدينة تُشكِّل مركزاً لتلاقي الحضارات وتفاعلها، وليس فقط لصراع دولٍ على الهيمنةِ على مُقدَّراتها.
كما أشار إلى أنَّ المدينة تمر بنكبةٍ تاريخية كما مرت بمحنٍ عديدة، نظراً لأهميتها الجيوستراتيجية، فهي تقع في قلب الشرق الأوسط وهناك تركيز عالمي عليها لموقعها الجغرافي الذي تتساوى فيه المسافات بينها وبين البحار (قزوين والأسود والمتوسط والخليج العربي). وللمدينةِ أيضاً أهمية تاريخية، فقد كانت نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية، ثمَّ هي أقدم مراكز الديانة المسيحية في الشرق، ثمَّ ثاني أكبر مدينة بعد دمشق في العهد الأموي، ثمَّ ساهمت المدينة في الفتوحات الإسلامية نحو الأناضول القوقاز وأرمينيا والشرق البعيد. وختم بأنَّ الموصل تحتاج لأن تكون آمنةً ومستقرة ومسالمة ومنتجة ومتحفزة للتنمية ولغسل الأفكار التي عاثت بها على مدى سنين طويلة.
تميزت الأوراق البحثية المُشاركة في هذهِ الندوة العلمية بوحدة الموضوع وتغطية أغلب الفترات التاريخية والجوانب الفكرية لهذهِ المدينة العريقة، وبالتالي فإننا نجد أن عرضنا لما أُلقي في هذا النشاط العلمي المتميز بموضوعهِ وبالأفكار والرؤى التي طرحها سيتخذ من وحدة الموضوع هذهِ سبيلاً ومنهجاً لبيان أهمِّ ما طُرح ونُوقش خلالها.
أولاً: التاريخ القديم لمدينة الموصل
فأمَّا بالنسبة لأصل تسمية هذهِ المدينة فيعود أقدم ذكر لكلمة نينوى في النصوص المسمارية إلى عصر سلالة أور الثالثة (2111-2006 ق.م.) دوِّنت بصيغة (نينا – آ) (ninn-a) و (ني – نو – آ) (ni-nu-a). وظهر أسم مدينة نينوى أيضاً بصيغٍ أخرى ففي العصر الآشوري الوسيط (1500-911ق.م.) ورد بصيغتين الأولى (أورو) ني – نو – أ (نينوى) (URUni-nu-a) والثانية قليلة الاستعمال وهي (أورو) ني – نا – أ (نينا) (nina URU)... إنَّ كلَّ الصيغ والعلامات التي أشارت إلى الاسم نينوى يُعتقد أنَّ لها علاقة بالإلهة نينا آلهة السمكة، فكما هو معروف أنَّ لفظة (نونُ) (nunu) بالآشورية تعني السمكة، ومن هذا اللفظ أشتُق أسم العلم بأشكالهِ (يونان – يونس – ذو النون).
تاريخ المدينة الموغل في القِدَم يبرز على ساحة الحضارات الإنسانية المهمة والفاعلة منذ أن عَمَد الآشوريون إلى التوسيع من رقعة بلادهم، بحث سيطروا على كلِّ الطُرق التجارية وقضوا على الثورات التي قامت ضدهم في الدول المجاورة ووصلت الإمبراطورية الآشورية إلى أقصى أتساعٍ لها أبَّان فترة حكم (تجلات بلاسر) (745–727ق.م.)، بحيث ضمَّت إليها بابل وسوريا وقبرص وشمال الجزيرة العربية ومصر. وكان الآشوريون من أعظم البنَّائين ولذلك شيدوا مدناً رائعة تعج بالمعابد والقصور، وقد اعتمدت الدولة الآشورية على أساسٍ عسكري حربي، مما أدى إلى استخدامها الخيل والمركبات الحربية وابتكار المنجنيق بأنواعهِ، كما استخدموا الحديد في صنع الأسلحة الخفيفة كالسيوف. وكان الملك (آشور بانيبال) آخر وأعظم الحكَّام الآشوريين، وكان متعلِّماً ومثقفاً وفي غضون فترة حكمهِ أنشأ مكتبةً ضخمة حفظ فيها سجلاَّت قديمة؛ سبقتها في القِدَم مكتبة مدينة خورسباد؛ وهي مكتبة ضخمة عُثر فيها على (30,943) لوح طيني، المكتبة ذات أهمية كبيرة حيث تحتوي على (1,200) موضوع مميز وغاية في الأهمية منها ملحمة كلكامش من الشعر البابلي وقصة الخلق البابلية وأسطورة أدبا والرجل الفقير من نيبور وكانت معظم الألواح مكتوبةً باللغة الأكادية ومُصنَّفة على حسب المحتوى وشـكل اللوح، حيث قُسِّمت المكتبة إلى عدَّة غرف كل منها يحتوي على وثائق حسب المحتوى مثل التاريخ والحكم والسحر وغيره واحتوت المكتبة على غرفةٍ لما يشبه الوثائق السرية أيضاً. جـمع آشور بانيبال الوثائق من مختلف المناطق الخاضعة للإمبراطورية الآشورية، حيث كتب لهم بجمع النصوص القديمة. تمَّ الكشف عن المكتبة من قبل البريطاني أستن لايارد في عام 1849م وهي الآن محفوظةً في المتحف البريطاني.
أمَّا بالنسبة لأعمال التنقيب الآثارية؛ الأجنبية منها على وجه الخصوص؛ فقد تمَّت ملاحظة الموقع لأول مرة من قبل البعثة الدنماركية عام (1761-1768م)، حيث لوحظ تل النبي يونس وتل قوينجق والتعرف على نينوى، وفي عام 1842م بدأ القنصل العام في مدينة الموصل بآول بوتا بعملية تنقيب واسعة في الضفة الشرقية لنهر دجلة وتمَّ العثور على قصر سرجون الثاني في خورسباد، في عام 1847م بدأ البريطاني الشاب أوستن لايارد بالتنقيب في تلِّ قوينجق، وأكتشف قصر سنحاريب و (71) غرفة ونقوش هائلة. وكشف عن قصر ومكتبة آشور بانيبال التي تحوي على (22,000) لوح طيني، معظم مكتشفات لايارد ذهبت إلى المتحف البريطاني. وقد كشفت التنقيبات عن عِظَم الذي وصلت إليه آشور وخصوصاً في عهد أسرحدون وآشور بانيبال. واستمرت أعمال التنقيب من قبل هرمز رسام وجورج سميث وآخرون، وتمَّ نقل كمياتٍ هائلة من الآثار إلى المتاحف الأوربية، وتمَّ كذلك الكشف عن قصرٍ تلو قصر ومكانٍ تلو الآخر، وتدريجياً كُشف عن الحياة اليومية للناس القُدامى الذين استوطنوا هذهِ البقعة من الأرض، والفنون... واستمرت أعمال التنقيب من قبل علماء آثار بريطانيين وعراقيين وكان آخرهم الأمريكيين حيث تمَّ التنقيب عن بوابات نينوى وأنظمة الري فيها من قبل جامعة كاليفورنيا (1989-1990م). واليوم تقع أطلال مدينة آشور التي كانت لها قدسية خاصة ومكانة متميزة على مسافة 110 كم جنوبي مدينة الموصل.
ثانياً: الموصل أبَّان السيطرة العثمانية
أمَّا بالنسبة لتاريخ مدينة الموصل أبَّان السيطرة العثمانية على العراق، فقد بيَّن الباحثون أنَّ ولاية الموصل كانت مع بداية دخول العثمانيين إلى العراق وسيطرتهم عليه تغطي الجزء الشمالي الغربي من العراق، وتمتد إلى الجنوب حتَّى تكريت وتحدها من الغرب والشمال أيالة الرقَّة وديار بكر والصحراء الشامية. وإلى الشرق منها كانت توجد أيالة شهرزور. وامتازت أيالة الموصل عن بقية الأيالات العراقية بوجود الإقطاعات العسكرية فيها بكثرةٍ لم تعهدها الأيالات الأخرى. كما أنَّ هذهِ الولاية امتازت بموقعها الهام كهمزةِ وصلٍ بين ولايات العراق وولايات الأناضول وولايات الشام.
كما تميزت الحالة السياسية في الموصل بعد طرد الصفويين منها (1306هـ/1626م). وحتَّى عام (1139هـ/1726م) وهو تاريخ تولِّي إسماعيل باشا الجليلي الحكم، بعدم الاستقرار في أحوال حكومتها بسبب سرعة تبدل الولاة الذين كانوا من جنسياتٍ مختلفة عربية أو كردية أو عثمانية، كما شَهِدَت هذهِ الفترة تأسيس سلالةً كردية، حيث ظهر رجل يُسمَّى بـ(أحمد الفقيه) (1106هـ/1664م) ويُلقَّب بـ(بابان)، وقد استغل أبناءه ضعف الدولة العثمانية وبسطوا نفوذهم على شهربازار وكركوك ومناطق أخرى، وبهذا تلاشى النفوذ العثماني وامتد نفوذ آل بابان بين ديالى والزاب الكبير. وشَهِد هذا العهد أيضاً كثرة الكوارث الطبيعية، وبالأخص خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وفي وسط هذا الاضطراب السياسي والتدهور الاقتصادي برزت ظاهرة نمو الأسرة الإقطاعية ومنها “الأسرة الجليلية” التي كان لها دور بارز ومتميز في تاريخ مدينة الموصل الحديث.
أمَّا بالنسبة للتاريخ الاقتصادي لمدينة الموصل، فقد أشار الباحثون المشاركون في هذهِ الندوة العلمية إلى أنَّ تجارة هذهِ المدينة كانت قد قادت إلى خلق حركةٍ كبيرة من الاتصالات مع مناطق ودول متعددة يقف على رأسها العديد من دول أوربا، وكان هذا نتيجة طبيعية لتغيراتٍ كبيرة تمثَّلت في انتقالاتٍ وتحولاتٍ على مستوى الدولة العثمانية ككل. واستند اقتصاد ولاية الموصل على بُنيةٍ شبكية أدَارتها مؤسَّسات مدينة الموصل عِبرَ حركةٍ تجارية إقليمية محميَّة؛ بدءً من التخوم الشمالية وانتهاءً بالسواحل الخليجية والمتوسطية. ولقد عرفت الموصل كونها واحدةً من أبرز المدن الكوسموبوليتانية في الشرق الأوسط، إذ اكتملت فيها ثلاثة أنواع من التجارات، هي التجارة الدولية بين الشرق والغرب، والتجارة الإقليمية بين مختلف الأقاليم التي تجاورها في إيران وتركيا وبلاد الشام، وأخيراً، التجارة المحلية التي تتميز بها حيوية المركز والأطراف المُحيطة بها.
ثالثاً: الحرب العالمية الأولى ومشكلة الموصل
بيَّن الباحثون كيف اكتسب العراق أهميةً كبرى في السياسة البريطانية، منذ بداية النشاط البريطاني في الخليج العربي في الربع الأول من القرن السابع عشر، وقد تنوعت المصالح البريطانية في العراق فهناك المصالح الإقتصادية التي تركَّزت على شراء المواد الأولية الرخيصة من جلود وصوف وعرق سوس وخيول، فعملت بريطانيا على ربط الاقتصاد العراقي بالرأسمال الأجنبي عن طريق تأسيس عدد من الشركات البريطانية أمثال شركة لنج ومكنزي، ولم يقتصر علمها على النشاط التجاري فقط بل كان وجودها يمثل تغلغلاً استعمارياً. أمَّا أهمية العراق الإستراتيجية بالنسبة لبريطانيا فتمثل في موقع العراق على الخليج العربي الذي هو جزء من طريق الهند البري الحيوي لمواصلات الحكومة البريطانية، وقد أكَّدت هذهِ الأهمية بعثة جسني الاستطلاعية عام 1834م لدراسة إمكانيات نهر الفرات المِلاحية.
وفي مطلع القرن العشرين ازدادت الأهمية نتيجةً لاكتشاف النفط في (عبادان) وكانت حماية هذهِ الحقول إحدى الأسباب التي تذرعت بها بريطانيا عند احتلال البصرة. وبدأت بريطانيا تُهيء قواتها العسكرية للحفاظ على احتلالها للخليج العربي. وفعلاً أرسلت قواتها إلى المنطقة في 2/تشرين الأول/1914م وفي اليوم التالي أسندت قيادة القوات البريطانية إلى العميد ديلامين وحدد أطار عملها باحتلال عبادان وحماية مصافي النفط. وفي يوم 6/تشرين الثاني من العام نفسهِ صدرت التعليمات إلى ديلامين بالتوجه إلى (الفاو)، وفعلاً نزلت قواته فيها ورُفع العلم البريطاني فيها بعد مقاومةٍ طفيفة. وفي 22/تشرين الثاني احتُلَّت (القرنة) من قبل القوات البريطانية وكان لاحتلالها أهمية كبيرة لموقعها العسكري ولصلاحية المِلاحة...
وبعد استعراضٍ لعددٍ من الأحداث التاريخية المهمة والبارزة لمدينة الموصل، تناول الباحثون القضية المحورية في تاريخ هذهِ المدينة، ألا وهي ما يُطلق عليه بـ”مشكلة الموصل” وتحديد مصيرها وتبعيتها السياسية. إذ ظهرت مشكلة الموصل نتيجةً لاندحار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني للعراق، فقد احتلت بريطانيا الموصل بعد إعلان هدنة مودروس في 30/تشرين الأول/1918م فاعتبرت تركيا ذلك الاحتلال غير مشروع، فجرت مفاوضات حول الموصل بين اللورد كيرزون وزير الخارجية البريطاني وعصمت إينونو وزير الخارجية التركي وقدَّم كلاًّ منهما مذكراتٍ مكتوبة احتوت على وجهة نظرهما حول القضية. وكانت وجهة النظر التركية تتركَّز حول الأمور التالية: الزعم بأنَّ العراق لا زال يعتبر جزءاً من الإمبراطورية العثمانية؛ أنَّ فرض الانتداب البريطاني على العراق تمَّ بدون أخذ رأي الشعب العراقي؛ المطالبة باستفتاء المنطقة.
أمَّا وجهة النظر البريطانية فكانت مرتبطةً بثلاثة وعود هي: وعد بريطانيا للشعب العراقي بعدم إرجاعه للحكم التركي؛ وعد بريطانيا للملك فيصل الذي انتخبه العراق بأجمعهِ بما فيه الموصل؛ وعد بريطانيا لعصبة الأمم كدولةٍ منتدبة على العراق وبموافقتها.
وبالتالي، فقد فشل الطرفان في التوصل إلى صيغة اتفاق بينهما، واقترح كيرزون أن يعهد إلى عصبة الأمم بدراسةِ المشكلة، طلبت الحكومة البريطانية من السكرتير العام للعصبة في 6/آب/1924م وضع قضية الحدود العراقية – التركية في جدول أعمال العصبة القادم، وبعد مناقشاتٍ طويلة استقر الرأي على تأليف لجنة تحقيق مرضية للطرفين، وقامت اللجنة بدراسة جميع الوثائق المتعلِّقة بالمشكلة وقررت زيارة المنطقة لاستطلاع آراء سكَّانها، فوصلت اللجنة إلى بغداد في 16/كانون الثاني/1925م وأجرت اتصالات مع الشخصيات البارزة وممثلي الطبقات والطوائف ولم تقتصر على دراسة النواحي السياسية بل درست نفسية الشعب ومشاكله الإقتصادية كذلك.
وضعت لجنة التحقيق تقريرها في 16/تموز/1925م في (113) صفحة من القطع الكبير وألحقت بهِ إحدى عشرة خارطة تتناول دراسة الحجج الجغرافية والعنصرية والتاريخية والإقتصادية والعسكرية والسياسية... وجاء فيه أنَّ عواطف سكَّان الموصل كانت إلى جانب العراق، وأوحت اللجنة بعدم تقييم المنطقة المُتنازع عليها وربطها بالعراق شرط مراعاة الأمور الآتية:
1. يجب أن تبقى المنطقة تحت انتداب العصبة لمدة (25) سنة.
2. ويجب مراعاة رغبات الأقليات فيما يخص تعيين موظَّفين لإدارة أمورهم، وقد اجتمع مجلس العصبة لدراسة تقرير لجنة التحقيق فتمَّت الموافقة في 16/كانون الأول/1925على القرار التالي بالإجماع:
1. اتخاذ خط بروكسل كخطِّ حدود بين العراق وتركيا.
2. دعوة الحكومة البريطانية لتقدم للمجلس معاهدةً جديدة مع العراق تضمن استمرار نظام الانتداب لمدة خمس وعشرون سنة.
3. دعوة بريطانيا لأن تقدم للمجلس التدابير لتأمين الضمانات المطلوبة.
4. دعوة بريطانيا لأن تطبق توصيات اللجنة الخاصة.
وقد قوبل قرار مجلس العصبة بالابتهاج والسرور في العراق مع التحفظ على الفقرة الثانية التي أوصت باستمرار الانتداب لمدة خمس وعشرين سنة. هذا هو ملخص دقيق لأبرز مجاريات مشكلة الموصل والنتائج التي تمخَّضت عنها.
رابعاً: تنظيم (داعش) الإرهابي وآثار مدينة الموصل
على الرغم من غيابه عن وقائع الندوة، إلاَّ أنَّ الأستاذ الدكتور المتمرس في جامعة الموصل إبراهيم العلاَّف شارك في هذا النشاط العلمي المتميِّز بورقةٍ بحثية سلَّطت الضوء على الممارسات الإجرامية التي انتهجها تنظيم (داعش) الإرهابي، وما كان لهذهِ الممارسات من آثار سلبية على المجتمع الموصلِّي وحضارتهِ وإرثهِ الثقافي والفكري...
إذ تناول الباحث مجموعةً من الموضوعات التي تدخل ضمن هذا الموضوع المُثير للجدل، لعلَّ من أبرزها وأكثرها فظاعةً وإيلاماً الاعتداءات الغير مبررة التي أقدم عليها هذا التنظيم بحقِّ آثار هذهِ المدينة العريقة والموغلة في القِدَم. وهي عبارة عن عدَّة عمليات قام بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بتدمير عدَّة مواقع ومنحوتات أثرية في العراق وسوريا، ولقد كانت هذهِ الآثار تعود لعصورٍ قديمة ومنها من كانت مُدرجةً ضمن لائحة التراث العالمي التابعة لمُنظَّمة اليونسكو مثل مدينة الحضر وآشور والتي تُدعى بقعلة الشرقاط وكالح في العراق، بالإضافةِ إلى مدينة تدمر الأثرية في سوريا، كما قام التنظيم بتدمير عدَّة مساجد قديمة مثل مسجد النبي يونس () في الموصل، والتي يُعتقد بأنَّها تحوي رُفاة النبي يونس أو يونان وكذلك مسجد النبي شيث ()، بالإضافة إلى تدميرهِ لعدَّة مساجد وكنائس ومعابد أيزيدية قديمة بالإضافة إلى المراقد الشيعية، وعادةً ما يقوم هذا التنظيم بتصوير عمليات التدمير هذهِ بأفلام فيديو قصيرة مثلما فعل في تدميرهِ لآثار متحف الموصل وكذلك جامع النبي يونس () ومدينة تدمر.
خامساً: العراق المُتخيَّل (أو المُصطنع)
حاول الباحث محمود عبد الواحد القيسي ربط العراق وتاريخه المعاصر بمصطلح التخيُّل التاريخي – الأدبي، الذي يرى أنَّ المُصطلح الجديد “كفيل بتفكيك ثنائية الرواية والتاريخ ودمجهما في هويةٍ سردية جديدة فلا يرهن نفسه لأيٍّ منهما، كما أنَّه سوف يُحيِّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية”.
ويُعرف الباحث “التخيل التاريخي” بالمادة التاريخية المُتشكِّلة بواسطة السَّرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية، فهو لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها ولا يروِّج لها إنَّما يستوحيها بوصفها ركائز مُفسِّرة لأحداثهِ، وهو من نِتَاج العلاقة المتفاعلة بين السَّرد المعزز بالخيال والتاريخ المُدعَّم بالوثائق، لكنه تركيب ثالث مختلف عنهما.
كما بيَّن الباحث أنَّ مصطلح “الأمة المُتخيلة” أو المُصطنعة، كان قد أوجده أو ابتكره الباحث البريطاني بندكت أندرسون سنة 1983م من خلال مؤلَّفهِ “الجماعات المُتخيلة”. إذ يُعرِّف أندرسن الأمة بأنَّها “جماعةٌ سياسية متخيَّلةٌ، حيث يشمل التخيُّل أنَّها محدَّدة وسيدة أصلاً”. ومن هذا التعريف، يعود الكاتب إلى الجذور الثقافية للمفهوم، حيث يرى أنَّ فكرة “تخيُّل” الأمة لم تنشأ، في أوربا، إلاَّ بعد تراجع اللغة اللاتينية كلغةٍ مقدسة، في ظلِّ الاكتشافات والاختراعات العلمية، وبوجهٍ خاص اختراع الطباعة؛ وبعد التغيير الذي جرى في طبيعة السلطة الملكية غير الوطنية التي تحكم بالمُصاهرة والقرابة دولاً وشعوباً، من دون أن ترتبط بالشعوب بمقدار ما ترتبط بنفسها؛ وبعد نشوء مفهوم جديد للزمن يفصل الزمن اليومي الفارغ والقابل للملْء بالأفعال الإنسانية، عن الزمن الديني المملوء أساساً.
وأخيراً، فقد تمَّيزت هذهِ الندوة العلمية بحضور كوكبة من أساتذة التاريخ والآثار من مختلف الجامعات والمؤسَّسات العلمية العراقية... الذين أغنوا موضوع الندوة بمناقشاتهم العلمية.
لوحة تصور مدينة الموصل، تعود لسنة 1876م
|