الوحدة الوطنية في الكتابات التاريخية العراقية المعاصرة بين الذاتية والموضوعية

2016-04-04

الوحدة الوطنية في الكتابات التاريخية العراقية المعاصرة بين الذاتية والموضوعية

ندوة اقامها قسم الدراسات التاريخية


الوحدة الوطنية في الكتابات التاريخية العراقية المعاصرة
بين الذاتية والموضوعية

عَقَد قسم الدراسات التاريخية في بيت الحكمة يوم الخميس المُوافق 24/3/2016م، ندوته العلمية الموسومة بـ: (الوحدة الوطنية في الكتابات التاريخية العراقية المعاصرة بين الذاتية والموضوعية)، على قاعة الاجتماعات في بيتِ الحكمة، حيث كان المشاركون في هذهِ الندوة العلمية هم كلٌّ من:
1.    أ.د. فلاح حسن الأسدي (رئيس الجامعة المستنصرية).
2.    أ.د. محمود عبد الواحد محمود (كلِّية الآداب – جامعة بغداد).
3.    أ.م.د. داود سلمان الزبيدي (كلِّية التربية (ابن رشد) – جامعة بغداد).
4.    أ.م.د. حيدر حميد رشيد (كلِّية التربية للبنات – جامعة بغداد).
5.    د. إسماعيل طه الجابري (بيت الحكمة – قسم الدراسات التاريخية). رئيس الجلسة.

افتتح السيد رئيس الجلسة وقائع الندوة بالترحيب بالسادة الحضور، مؤكِّداً على استمرار بيت الحكمة في صبِّ جلَّ اهتمامهِ لمعالجة أبرز وأهمِّ القضايا الإجتماعية والفكرية والتي من شأنها خدمة الحركة العلمية في العراق.
أمَّا عن موضوع الندوة وأهميتهِ بصورةٍ عامة، فقد بيَّن أنَّ: "الوحدة الوطنية هي أحد أهمِّ مقومات أيِّ وطنٍ قوي، فهي مصدر تقدمهِ وإزدهارهِ، هذهِ الوحدة التي تتجسَّد في تلاحم الشعب مع بعضهِ البعض أو بينه وبين القيادة الوطنية. ووجودها يُساعد على تحقيق الأمن وضمان الطمأنينة بين ربوع الوطن باعتبار أنَّ الشعب يؤمن بواحديتهِ ويؤمن بتعدده السياسي والإجتماعي والإقتصادي ولكن في إطار منظومة الوحدة الوطنية التي لا تُفرِّق بين أحدٍ إلاَّ على أساس الكفاءة والإنجاز وما يقدمه للوطن من خدماتٍ تدفعه إلى الأمام. فالوحدة الوطنية تعني وجود وطن واحد موحَّد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب يسكن فيه شعب يربطه تاريخ مشترك ومصير مشترك ومصالح مشتركة. ويتألَّف مفهوم الوحدة الوطنية من عنصرين هما "الوحدة" وهي التي تجمع الأشياء المتفرقة، و "الوطنية" هي انتماء الإنسان إلى دولةٍ معينة، يحمل جنسيتها ويدين بالولاء إليها، على اعتبار أنَّ الدولة ما هي سوى جماعة من الناس تستقر في إقليمٍ محدد وتخضع لحكومةٍ مُنظَّمة".
كذلك فقد أشار الدكتور الجابري إلى "طبيعة المجتمع العراقي" ومكوناتهِ العرقية والإثنية والدينيَّة المختلفة، ودور هذا الاختلاف في تعزيز الوحدة الوطنية، حيث يتميز المجتمع العراقي بالتعدد والتنوع الإثني والديني والقبلي والطائفي واللغوي. فهو يمثل قطعة موزائيك فسيفسائية ملونة ومتنوعة ومختلفة، وإنَّ هذا التعدد والتنوع والاختلاف كان وما يزال يسوده التآلف والتعايش والتسامح في هذهِ البقعة الجغرافية متنوعة التضاريس والمناخات والأجناس والثقافات الفرعية، مثلما كان مصدر غِنى وإبداع. وإن حدثت بعض الاختلافات والصراعات بين فئةٍ وأخرى، فإنَّ مساحة التسامح قد تتسع أو تضيق أحياناً، ولكنها في الأخير تكون صمَّام الأمان يحافظ على الوحدة والتماسك بين هذهِ المكونات ويساعد على التعايش والتكامل الإجتماعي، ولم يصل الأمر بين هذهِ المكونات الإجتماعية إلى خِلافٍ يؤدِّي إلى إلغاء الآخر ونفيه. وهذا هو قمة التسامح الذي يتميز بهِ المجتمع العراقي.

ألقى الباحث الأول الأستاذ الدكتور فلاح حسن الأسدي كلمته التي أعدها لموضوع هذهِ الندوة. مبيناً أنَّ مفهوم المواطنة الإيجابية يبدأ من البيت، ويتدعم بالتأهيل التربوي والأكاديمي والتشجيع الحكومي والتلاحم المجتمعي، إلى جانب تمكين الشباب بمنحهم الثقة وتوفير فرص العمل والإبتكار، والتعلُّم من التجارب والأخطاء حتَّى يصبح ثقافةً سائدة في المجتمع. محدداً مفهوم «المواطنة الإيجابية» بأنَّها مسؤولية والتزام يدفعان كلَّ فرد في المجتمع إلى أداء دوره بفاعليةٍ لخدمةِ وطنهِ. وأفاد بأنَّها تحمل مشاهد ومعاني كثيرة تعكس تلاحم المجتمع العراقي في صورةِ بناء وفكر ومستقبل، وكلَّها ترتبط بأمثلةٍ يومية لسلوكيات تترسَّخ في الذاكرة. وشدَّد على أنَّ إستراتيجية صياغة المواطن المنتج الفعَّال إنَّما تتمحور حول إدارة المال الخاص والتعليم والتطوير الذاتي..
وبالتالي، فقد أكَّد الباحث على ضرورة أن يضطلع المؤرخ العراقي من خلال محاضراتهِ وكتاباتهِ بدوره المجتمعي والفكري في تعزيز هذهِ الثقافة المجتمعية القائمة والمُستندة على روح ومعاني الوحدة الوطنية السامية. كما دعا خلال كلمتهِ إلى وضع آليات تُرسِّخ ثقافةً مجتمعيةً متطورة تستند إلى الهوية العراقية المُنبثقة عن ثقافتنا العربية الإسلامية والقائمة على الانفتاح على الثقافات الأخرى.
وحول موضوع الهوية الوطنية – الوارد ذكره في أعلاه – فقد بيَّن الباحث أنَّ السنوات الأخيرة قد شَهِدت اهتماماً كبيراً في الدراسات التي تناولت موضوع الهوية واستأثرت باهتمام العديد من الباحثين والمُفكِّرين. وقد عالج الفكر الفلسفي الإغريقي منذ البداية مسألة الهوية باعتبارها أحد مبادئ المنطق  ومقولة من مقولات الكينونة، وقد تعدَّت اليوم نطاق البحث الفلسفي إلى المجال المعرفي وأصبحت إشكالية تميز كلَّ ثقافةٍ بالذات كما تعدَّت ذلك لتصبح أزمة تعيشها الجماعات الثقافية في صميمها. عاداً مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل والنقاش والأكثر سعياً للتشابك والتداخل في سياقاتٍ معرفية ومفاهيمية وهذهِ جميعها أعادة وباستمرار طرح سؤال الهوية. حيث إنَّ التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتطور التكنولوجي الكبير الذي أصبح يُهيمن على حياة البشر أدت إلى خلخلة كلِّ هويةٍ مستريحة إذ من المستحيل اختزالها في معنى واحد لأنَّ الهوية باعتبارها رفضاً دائماً لأيِّ أصلٍ مُطلق أو مصدر مُتعال لا يحيل على خزان ثقافي، وإنَّما على ثقافةٍ حيَّة وعلى النشاط الذي يُنتجها ويستوعبها من خلال مجاوزتها، هي بالإضافة إلى ذلك تلتقي مع القدرة على دمج الاختلافات التي تُشكِّل غنى وسموِّ الإنسان.
أمَّا فيما يتعلَّق بالمناهج الدراسية ودورها في تنمية وتعزيز روح المواطنة لدى فئة الشباب بوجهٍ خاص، فقد ذكر الباحث أنَّ العملية التي يتم من خلالها وضع المقررات الدراسية ومراجعتها حالياً توحي بضآلة المجال المُتاح لتعديل توجهاتها الأيديولوجية على أيِّ نحو راديكالي، لأنَّ الجوانب الإجرائية والتنظيمية لوضع المناهج قد استقرت إلى حدٍّ بعيد، كما أنَّها تتَّسم بمركزيةٍ شديدة. في حين أكَّد في المقابل على أنَّ الهدف الرئيس من المناهج الدراسية يجب أن يكون إنماء شخصية الإنسان إنماءً كاملاً، وتعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينيَّة...

الباحث الثاني كان الأستاذ الدكتور محمود عبد الواحد محمود، الذي كرَّس ورقته البحثية حول عدَّة موضوعاتٍ تُعالج إشكالية دور المؤرخ العراقي في تدعيم الوحدة الوطنية. مفتتحاً كلامه ببيان أنَّ العديد من الدول بصفةٍ عامة ودول العالم الثالث بصفةٍ خاصة إنَّما تواجه مشاكل وأزمات خطيرة تهدد وحدتها الوطنية بالإنهيار، ومن أخطر هذهِ الأزمات بل وأكثرها جدلاً أزمة الهوية الثقافية التي تتعلَّق بتكوين شعور مشترك بين أفراد المجتمع الواحد بأنَّهم متميزون عن باقي المجتمعات، ومن هنا أصبحت الهوية الثقافية المحور الرئيس للأمم والشعوب، فقد انفجرت صراعات عرقية وثقافية في شتَّى أنحاء العالم تُبيد وتدمر وتقتلع جذوراً كانت راسخة في كثيرٍ من الدول مثل دول البلقان والصومال ورواندا، حيث عمليات الإبادة الجماعية على أشدها وعلى نحوٍ غير مسبوق. فالهوية تُعد من أهمِّ السمات المميزة للمجتمع، فهي التي تُجسِّد الطموحات المستقبلية في المجتمع، وتُبرز معالم التطور في سلوك الأفراد وإنجازاتهم في المجالات المختلفة، بل تنطوي على المبادئ والقِيَم التي تدفع الإنسان إلى تحقيق غاياتٍ معينة، وعلى ضوء ذلك فالهوية الثقافية لمجتمعٍ ما لا بدَّ وأن تستند إلى أصول تستمد منها قوتها، وإلى معايير قيمية ومبادئ أخلاقية وضوابط إجتماعية وغاياتٍ سامية تجعلها مركزاً للاستقطاب العالمي والإنساني، كما شغلت قضية الهوية الثقافية بال المُفكِّرين والعلماء والمثقفين والقادة في دول العالم، خاصةً في عصر العولمة الذي ترك آثاراً نفسية نتج عنها تحول في الهوية واضح.
كما أشار الباحث إلى أهمية الهوية في تشكيل الشخصية الفردية والمجتمعية، مؤكِّداً على أنَّ الهوية الثقافية لا تكتمل ولا تبرز خصوصيتها، ولا تغدو هويةً ممتلئة قادرة على نشدان العالمية إلاَّ إذا تجسَّدت مرجعتيها في كيانٍ تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن (الجغرافية والتاريخ)؛ الدولة (التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة)؛ والأمة (النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة المشتركة)، كما أنَّ الهوية الثقافية هي حجر الزاوية في تكوين الأمم، لأنَّها نتيجة تراكم تاريخي طويل، فلا يمكن تحقيق الوحدة الثقافية بمجرد قرار، حتَّى لو توفرت الإرادة السياسية.
وقد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أنَّ الفرد يبدأ في إدراك هويتهِ في سنٍّ مُبكِّرة، فقد أثبتت إحدى الدراسات أنَّ السن الطبيعي لإدراك الطفل لهويتهِ القومية تبدأ ببلوغهِ 6-7 سنوات، ويزداد إدراكه بتقدم عمرهِ، وبالتالي فإنَّه يمكن إكساب الفرد الاتجاهات الإيجابية نحو الولاء للوطن في سنٍّ مُبكِّرة. كما أشارت دراسة أخرى إلى أنَّ الطفل يمكنه اكتساب الاتجاهات الإيجابية نحو الولاء للوطن منذ سنِّ السابعة، وذلك من خلال نشاطهِ مع الجماعات المختلفة، ولذلك فإنَّ قوة الانتماء تعضد الهوية الثقافية لدى أفراد المجتمع. ومن هنا صارت المؤسَّسات التربوية مطالبة بالحفاظ على ثقافة المواطنين المعرضة للتدهور والاندثار، وأن تعمل على التأكيد على الهوية الثقافية للمجتمع؛ لأنَّ التعليم يُشكِّل حجر الزاوية في تشكيل الهوية الثقافية وفي تعزيزها والحفاظ عليها لكلِّ شعبٍ من الشعوب، لذلك فإنَّ الدول تتخذ التعليم كأداةٍ أساسية لتربية أبنائها منذ الصغر على المبادئ والأفكار والأيدلوجيات التي تُشكِّل في النهاية الهوية الثقافية للمجتمع.
وحول دور اللغة في تدعيم الهوية الوطنية، وضرورة الاستفادة من التجارب العالمية في هذا الشأن، استعرض الباحث طبيعة التجربة اليابانية في هذا المجال، التي استطاعت أن تحقق نهضتها، وفي الوقت نفسهِ الاحتفاظ بهويتها الثقافية، على الرغم من الشروط القاسية التي فرضتها عليها دول التحالف بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي حاولت من خلالها تجريدها من كلِّ عوامل قوتها وتميزها، ولكنها لم تتخل عن لغتها القومية رغم نظامها الكتابي المُعقَّد، فبقيت لغتها القومية وسيلةً لنظام تعليمها وعملية تحديثها ونهضتها العلمية والصناعية، حيث جعلتها لغتها الفصيحة في التعليم بمختلف مراحلهِ وتخصصاتهِ، وكذلك لغة الإعلام وعلى رأسهِ قناتها التلفزيونية الحكومية المعروفة باسم NHK التي كان لها دور كبير في انتشار اللغة اليابانية الفصيحة وترسيخها بين اليابانيين على اختلاف لهجاتهم.
أمَّا عن أهمية علم التاريخ والكتابة التاريخية في تدعيم الوحدة الوطنية، فقد أشار الباحث إلى أنَّ من سمات دراسة التاريخ أنَّها  تتناول دراسة أحوال مجتمع فترةٍ زمنيةٍ معينة، والظروف والأحداث والأماكن والشخصيات التي أثرت في أحوال هذا المجتمع وقضاياه في تلك الفترة الزمنية لإتاحة فهمٍ أفضل يمكن من خلاله إستشراف الحاضر وإستلهام المستقبل، والأمم أو الدول التي تُهمل دراسة تاريخها إنَّما تُهمل وجودها وأصل نشأتها، وبالتالي الفشل في تفهم طبيعة مجتمعها الفكري ودور التاريخ ووظيفته الفاعلة في التأثير في المجتمع الإنساني، وأكاديمياً تركِّز دراسة التاريخ في الخارج على التأثير الثقافي والفكري للتاريخ في المجتمع، ودور خريجي التاريخ أو المؤرخون في تفعيل هذا التأثير، فدراسة التاريخ في الدول المتقدمة تُساهم في إستخراج النماذج التاريخية التي يجب إبرازها والإقتداء بها وغرس الشعور بإنجازات الأمة وتراثها الإنساني من أجل رفع الروح المعنوية، وزيادة الروح الوطنية...
 
الباحث الثالث المشارك في هذهِ الندوة، كان الأستاذ المساعد الدكتور داود سلمان الزبيدي، الذي تناول في بدء ورقتهِ البحثية موضوع العولمة Globalization وأثرها على إضعاف الروح والهوية الوطنية لدى المجتمع بصورةٍ عامة وطبقة الشباب بصورةٍ أخص. حيث أُطلق على هذا العصر عصر الثورة المعلوماتية The Information Age والذي تزامن معه الكثير من التقدم في مجالات الاتصالات والأقمار الصناعية والتي تجاوزت الحواجز السياسية والإقليمية بما يهدد الهوية الثقافية للأُمم والمجتمعات. ومن هنا ارتبطت قضية الهوية بعملية العولمة باعتبارها القضية المحورية التي تُعبِّر عن التحدي الحضاري الذي يواجه العالم العربي والإسلامي على حدٍّ سواء. ويشهد عالمنا العربي المُعاصر ثقافتين متباعدتين ثقافة مُفعمة بالمواطن الأصلية وأخرى عولمية تغريبية. والعولمة الثقافية تجري وتتوسع في مناخ من التراجع الحاد للثقافة المكتوبة، ويُعتبر شباب المجتمع وخاصةً طلاَّب الجامعة عرضةً لتجليات وتأثيرات العولمة. ويتضح ذلك في كثيرٍ من المجالات الملبس والمأكل وفي طريقة التحدث بل وفي طريقة التعامل مع الآخرين وأيضاً في استخدام كلماتٍ أجنبية، وكما أنَّ طلاَّب الجامعات أكثر انفتاحاً على الثقافات الغربية من غيرهم – فإنَّ الجامعات تواجه اليوم مسؤولية كبيرة وهي الحفاظ على الهوية القومية لثقافة المجتمع وتأصيلها. ومن منطلق أنَّ تشكيل الهوية الوطنية وتنميتها لدى الخريجين وأفراد المجتمع عموماً، هو واحد من أهمِّ التحديات التي تواجه جامعات اليوم فقد حاول الباحث خلال ورقتهِ البحثية محاولة الكشف عن الهوية الثقافية لطلاَّب الجامعات العراقية في ظلِّ تلك التحديات.
أمَّا عن دور المؤرخ العراقي بصورةٍ عامة والأكاديمي بصورةٍ أخص في ظلِّ الأزمة المجتمعية التي يمر بها العراق تحت ظروفٍ استثنائية تعصف بالبلاد محاولةً تمزيق كيانهِ وبُنيتهِ.. فقد أكَّد الباحث على ضرورةِ إلزام المؤرخ نفسهِ – قبل كلِّ شيء – بالموضوعية Objectivity والانتماء للكل بعيداً عن الأجزاء المتناحرة، فهو وحده القادر على استلهام الماضي لوضع اليد على الجرح النازف، فضلاً عن كونهِ القادر على التأثير في جيلٍ من الشباب المقدَّر له العمل على التغيير بعيداً عن كلِّ أنفاس المتشائمين والذين يعملون على بثِّ روح الإنكسار النفسي داخل المجتمع لتحقيق غاياتٍ فردية دنيوية لا تحمل كلَّ معنى من معاني الإنسانية ولا أيِّ إلتزام إنساني وديني وأخلاقي؛ لِذا نجد لزاماً على المؤرخ اليوم اعتماد ما صرح به المسعودي (ت346هـ/957م) من أهمية دراسة التاريخ للإفادةِ من حوادثهِ دروساً للحاضر والمستقبل؛ فضلاً عمَّا ذهب إليه مسكويه (ت421هـ/1030م) الذي كان أكثر جرأةً في طرح حلولهِ المجتمعية من خلال دراسة التاريخ، إذ عنون مصنَّفه في التاريخ بـ: "تجارب الأمم وتعاقب الهمم"، حيث هدف من خلال كلِّ ما سرده إلى استخلاص الحكمة والموعظة من مجاريات التاريخ المختلفة وهو بذلك يحدد مهمة المؤرخ – وفي زمنٍ متقدم يفصلنا عنه اليوم قرابة تسعمائة عام – أنَّه يُحمل المؤرخ مسؤولية وضع الحلول لمشكلات المجتمع من خلال دراسة الماضي بعيداً عن التحزب الديني والمذهبي والمناطقي...
وبالتالي فإنَّ مهمة المؤرخ العراقي اليوم تقوم على أساس الطرق على مسامع السياسي بمطرقةٍ تؤرقه واضعاً أمامه ما آلت إليه كلَّ طموحات المُستبدين الذين سبقوه والذين عُميت بصائرهم وجانبوا الحرية والعدالة وابتعدوا عن العامة مُفكِّرين بأنفسهم دون سواهم.. عليه اليوم أن يرسم بريشة الفنان لوحة المستقبل من خلال تعاملهِ مع زملائهِ وطلبتهِ في الجامعة مستثمراً هؤلاء في رسم لوحة المجتمع المتطلعة إلى المستقبل.

الأستاذ المساعد الدكتور حيدر حميد رشيد، كان الباحث الرابع والأخير المُشارك في هذهِ الندوة العلمية، الذي عقَّب في بداية كلمتهِ على عنوان الندوة، محاولاً إيضاح وبيان مفهوم المصطلحات الواردة فيه، حيث عَمَد الباحث إلى تعريف كلٍّ من مصطلح الموضوعية والذاتية وبيان الاختلاف بينهما، فقد بيَّن أنَّ المناهج العلمية في دراسة الإنسان ترتبط والظواهر الكونية بإشكالية الموضوعية والذاتية، فإذا كان الإنسان كياناً مادياً؛ فبالإمكان رصده بشكل مادي خارجي، أمَّا إذا كان الإنسان كياناً مركَّباً يحوي عناصر مادية ترد إلى عالم الطبيعة / المادية وعناصر غير مادية؛ فالرصد الخارجي الموضوعي الكافي يصبح غير كافٍ. ويُشتق "الموضوع Object" من الفعل اللاتيني "أوبجباكتاري objectary" ومعناه يُعارض أو يُلقي أمام، المُشتق من فعل "جاكري Jacere" بمعنى "يُلقى بـ" و "أوب Ob" بمعنى ضد. والموضوع: هو الشيء الموجود في العالم الخارجي، وكل ما يُدرَك بالحس ويخضع للتجربة، وله إطار خارجي، ويُوجد مستقلاً عن الإرادة والوعي الإنساني. وعلى الجانب الآخر، تُشتق الذات بالإنجليزية "subject" عن نفس أصل كلمة object، ولكن بدلاً من "Ob" التي تُضاف لكمة "Object" يُضاف مقطع "sub" بمعنى تحت أو مع. ويُنسب الذاتي إلى الذات، بمعنى أنَّ ذات الشيء هو جوهره وهويته وشخصيته، وتُعبِّر عمَّا بهِ من شعور وتفكير، والعقل أو الفاعل الإنساني هو المُفكِّر وصاحب الإرادة الحرة، ويُدرِك العالم الخارجي من خلال مقولات العقل الإنساني.
وتُعبِّر الموضوعية عن إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، أي تستند الأحكام إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارةٍ أخرى تعني الموضوعية الإيمان بأنَّ لموضوعات المعرفة وجوداً مادياً خارجياً في الواقع، وأنَّ الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلةً عن النفس المُدركة) إدراكاً كاملاً. وعلى الجانب الآخر، كلمة الذاتي تعني الفردي، أي ما يخص شخصاً واحداً، فإن وُصِف شخص بأنَّ تفكيره ذاتي فهذا يعني أنَّه اعتاد أن يجعل أحكامه مبنية على شعورهِ وذوقه، ويُطلق لفظ ذاتي توسُّعاً على ما كان مصدره الفكر وليس الواقع.
ويُعتبر الذاتي في الميتافيزيقا Supernatural رد كلِّ وجود إلى الذات، والاعتداد بالفكر وحده، أمَّا الموضوعي فهو رد كلَّ الوجود إلى الموضوع المبدأ الواحد المتجاوز للذات. أمَّا في نظرية المعرفة، فإنَّ الذاتية تعني أنَّ التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساسٍ موضوعي، فهي مجرد اعتبارات ذاتية، وليس ثمَّة حقيقة مُطلقة، أمَّا الموضوعية فترى إمكانية التفرقة. وفي علم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أنَّ مقياس الخير والشر إنَّما يقوم على اعتباراتٍ شخصية؛ إذ لا توجد معيارية متجاوزة، أمَّا الموضوعية فترى إمكانية الوصول إلى معيارية. وفي عالم الجمال، تذهب الذاتية إلى أنَّ الأحكام الجمالية مسألة ذوق، أمَّا الموضوعية فتحاول أن تصل إلى قواعد عامة يمكن عن طريقها التمييز بين الجميل والقبيح.
كما استعرض الباحث أسماء مجموعة من الرموز الوطنية التي كان لها دور كبير وفاعل في رصِّ صفوف المجتمع العراقي وتأصيل الروح الوطنية في نفوس أبناء العراق، هذهِ الشواهد التاريخية الواجب استحضارها في المناهج الدراسية والكتابات التاريخية وبيان دورها ومواقفها الوطنية الرائدة لخلق تفاعل إيجابي وحيوي مع هذهِ المشاريع الإنسانية والفكرية التي دعمت الروح الوطنية والبُنية الإجتماعية العراقية على مرِّ الأوقات. ومن بين هذهِ الشخصيات يبرز أسم الزعيم الوطني جعفر أبو التمن (1881-1945) الذي كان أحد أبرز قادة الحركة الوطنية أثناء العهد الملكي وقبله.
كما شدد الباحث على ضرورة الإفادة من التجارب الدولية والعربية في تطوير المناهج الدراسية بغية تعزيز روح الوحدة الوطنية بين جيل الشباب الواعي والمثقف في المجتمع العراقي، وقد استعرض التجربة العُمانية كإنموذج لهذهِ التجارب، ملقياً الضوء على ما تمَّ من خطواتٍ ومراحل لتطوير التعليم في السلطنة ومُحددات وبرامج التطوير في نظام التعليم الأساسي والعام وما رافق ذلك من تحديث وتطوير في المناهج الدراسية العُمانية وآليات التقويم التربوي..

كان للسيد رئيس مجلس أمناء بيت الحكمة، الدكتور إحسان الأمين، تعقيباً على ما طُرح أثناء هذهِ الندوة العلمية من قبل السادة الباحثين وما تمَّ مناقشته من قبل الحضور، حيث بيَّن في البدء أنَّ مؤسسة بيت الحكمة إنَّما هي مركز دراساتٍ حرٌّ في توجهاتهِ وموضوعي في طروحاتهِ وغير مُسيَّر أو موجَّه من قبل السلطات السياسية بأيِّ شكلٍ من الأشكال. مستعرضاً كذلك أبرز المشاريع الإستراتيجية لبيت الحكمة والتي من شأنها دعم الهوية الوطنية وترصين الثقافة المجتمعية إلى المستويات المُراد الوصول إليها، ومن أبرز هذهِ المشاريع: أولاً، مشروع تاريخ العراق الإقتصادي؛ ثانياً، مشروع المفصل في تاريخ العراق المعاصر؛ ثالثاً، مشروع تاريخ الوزارات العراقية..
أمَّا عن طبيعة العراق ومجتمعهِ والحضارة العظيمة التي نشأت فيه فقد بيَّن أنَّ العراق هو المهد الأول للحضارات القديمة، ومهبط للنبوات، والشرارة الأولى للإضاءات في الفكر البشري، لتكون المُنطلق لتطور الحياة البشرية في شرق الأرض ومغاربها. حيث مرَّت على العراق العديد من الحضارات القديمة والتي سجَّلها التاريخ ودلَّت الآثار عليها، وبالرغم من هذا فإنَّ مرور العديد من الشعوب والحضارات على أرض العراق يُعطيها مكانةً تاريخيةً مميزة، فكانت هذهِ البقعة من الأرض بحق مركز جذبٍ واستقطابٍ للعديد من الشعوب والأقوام التي هاجرت إليها.
وحول موضوع أو ظاهرة الهجرة التي وردت أعلاه، يُبيَّن الدكتور الأمين أنَّ الهجرة الإنسانية Human Migration ظاهرة قديمة، وهي بالتالي تمثل إحدى أُسس تشكُّل الحضارات الإنسانية المختلفة، وأحد أوجه ومميزات التاريخ الإنساني بصورةٍ عامة، فقد انتقل الإنسان من مكانٍ لآخر عِبرَ العصور التاريخية ولأسبابٍ عديدة، وترتَّب على ذلك نتائج ديموغرافية وإجتماعية وإقتصادية في معظم أقاليم العالم إن لم يكن كلَّها، وتُعد خريطة التوزيع السكَّاني والحضاري اليوم نتاجاً لعوامل عدة منها الحركات السكَّانية الجغرافية على مرِّ العصور. ما يجعل الدعوة إلى وحدةٍ وطنية أو قومية قائمة على أساس العِرق أو الدين أو الجنس أو القومية أو ما شاكل ذلك، دعوة تقوم على أُسسٍ خاطئة وغير علمية، فالقاطنين على هذهِ الأرض هم من يمثلون في حقيقة الأمر أهلها وهم الأحق بالانتساب إليها، وهم العراقيون في حالة موضوع دراستنا ومناقشتنا...

وأخيراً، فقد تمَّيزت هذهِ الندوة العلمية بحضور كوكبة من علماء التاريخ والفكر الإسلامي من مختلف الجامعات والمؤسَّسات العلمية العراقية... الذين أغنوا موضوع الندوة بمناقشاتهم العلمية.



 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل الخبر