الشخصية العراقية وسرير "بروكست"!

2020-05-06

الشخصية العراقية وسرير "بروكست"!

  حسن إسميك


 كتبَ الكثيرُ عن الشخصية العراقية، وكان القاسمُ المشترك بين هذه الكتابات هو أنَّ هذه الشخصية تكاد تنحصر في عدَّة صفات، وهي: التناقضُ، والتسلُّطُ، والعنفُ الدمويُّ، والازدواجية، والمزاجية، والقَبَليّة، والطائفية.......إلخ. وبذلك تكون هذه الخلاصاتُ قد رسمت صورةً نمطيَّةً حول شخصية العراقيّ، جاعلةً منه إنساناً دمويّاً عنيفاً ومزاجيّاً حادَّ الطباع!

وبالتالي: تمَّ وَسْمُ العراقيّ وتصنيفُهُ ضمنَ قالب محدَّدٍ يذكِّرُنا بسرير "بروكستوس" الأبِ الروحيّ لكلّ نمطيةٍ.
 
وفي رأيي: أنّ في ذلك مغالاةً كبيرةً يترتَّبُ عليها إغلاقُ باب الأمل أمام التغيير الذي ينشده العراقيون لتطوير مجتمعهم، وتخليصِهِ من أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
 
الباحثُ المُنصِفُ الذي يريد تشخيصَ الظواهر الاجتماعية لشعبٍ ما يبحث في جذور ومسار تشكُّلِها، ومن ثَمَّ يخرج بخلاصات تستند على تاريخ حركة المجتمع والصيرورة التي انتهى اليها، وبعد ذلك يقدّمُ الحلولَ والعلاجاتِ اللازمةَ للسلبيات أو الأمراض الاجتماعية، التي شكّلت بِنْية اللاوعي الجَمْعيّ لهذا الشعب، أما في الحالة العراقية فأغلبُ الذين كتبوا حول الشخصية العراقية كأنهم يصدرون عن مشكاة واحدة هدفُهُم – وأفترض هنا حسنَ النية عند الكثيرين منهم - تشريحُ شخصية العراقيّ من خلال الانطلاق من مقدماتٍ معينة ليصلوا إلى نتائج محدَّدةٍ سلفاً!
 
وهذا لا يعني أنّ العراقيّ مَلاكٌ يمشي على الأرض، لكن كنتُ أتمنى أن ينظر للعراقي كأيِّ إنسان آخرَ تعرَّضَ لظروف قاسية جعلته على صورته هذه؛ فالعراقيُّ تعرَّضَ لفترات طويلة من أنماطٍ أو أشكالٍ من الإدارة السياسية الظالمة والمستبدَّة جعلته ينفر من الدولة والاستقرار، ويلجأ الى حاضنته الأولى (القبيلة) التي كانت سائدةً قبل مرحلة ما قبل الدولة.
 
وأحسبُ أنّ هذه التجربة المريرة قد طبعت سلوكَ أغلب – إن لم نقل: كلَّ - مجتمعاتنا العربية مع بعض الفوارق؛ فالأزمةُ التي تسكنُ عقلَ مجتمعاتنا عميقةٌ ومستقرة في بِنْية "لا وعينا الجَمْعيّ".
 
لذلك تندرجُ أزمةُ العراقيّ ضمن سياقها العربيّ الممتدِّ عبر حِقَبٍ زمنية طويلة ، وبالتالي: لا يمكن سجنُ شخصية العراقيّ أو حصرُها ضمن قالَبٍ محدَّدٍ سيؤدي حتماً إلى شَيْطَنَتِها!
 
وتأسيساً على ذلك: أدعو إلى تكثيف الدراسات حول الأنماط الإيجابية في "شخصية الفرد العراقي" للبناء عليها من أجل تخليصها من السلبيات التي تتحكَّمُ بها في واقعها الحالي، وأظنُّ أنّ إبراز الجوانب السلبية عند العراقيّ قد أخذت شطراً كبيراً من جهود الباحثين العراقيين والعرب، وقد آن الأوانُ للبحث عمّا هو إيجابيٌّ، وإبرازُهُ لتعزيز ثقة العراقي بنفسه؛ حتى يستطيع الانفكاك من قيوده التي تمنعه من أن يدرك عظمةَ بلده وأصله الذي أنتجَ أقدمَ وأعرقَ الحضارات البشرية.
 
علينا أن نستحضر العقليةَ العراقية الإيجابية الفاعلةَ في تاريخ الحضارة الإنسانية جمعاء، وأن نستلهم من تاريخ العراق المشرق شخصياتٍ غيّرت العالم،على سبيل المثال لا الحصر: "نبوخذ نصر" القائد العسكري والسياسي المُحنَّك الذي يُعدُّ من أبرز الشخصيات التاريخية في العراق القديم، وأن نتذكر أمجاد الإمبراطور العظيم، والمُشرِّعِ القانوني الكبير "حمورابي"، والخليفة "هارون الرشيد" الذي ترك للأجيال دروساً في السياسة، وعبراً في القوة والعزم،وفلاسفةَ "بيتِ الحكمة" الذين علَّموا أوروبا الفلسفةَ في العصور الوسطى، كما يجب علينا أن لا ننسى دور و إبداعات فقهاء وعلماء العراق الأفذاذ، كالإمام جعفر الصادق والإمام أبي حنيفة النعمان اللذين ساهما في نشأة وتطوّر الفقه الإسلامي.
 
والسؤالُ الذي أطرحه هنا: ما هو المطلوب من العراقيين لتغيير تلك الصورة السلبية عنهم؟
 
أحسبُ أنّ العراقيين يُدركون أنّ أحوال بلادهم لا تسرُّ أحداً من أهل العراق ولا من العرب؛ فالتطرُّفُ والطائفية و الفساد تكاد تشملُ الكثيرين من شرائح المجتمع العراقي، ممّا أوجد حالةً من الإحباط واليأس عند المواطن العراقيّ؛ لذلك فالكرةُ في ملعب العراقيين، وعليهم وحدهم تقعُ مسؤوليةُ تغيير واقعهم نحو الأفضل دونَ التفاتٍ للآخرين وإملاءاتهم، فهم أصحابُ القضية، وعليهم أن يشخصوا أمراض مجتمعهم من خلال الاستعانة بالخبرات العراقية ذاتِ الكفاءة العالية في كافةِ الاختصاصات داخلَ العراق وخارجَهُ؛ حتى يتوصلوا إلى أنجع الحلول التي تناسب واقعهم بعيداً عن وصفات وتشخيصات الآخرين.
 
لقد عشتُ مع هذا الشعب الكريم سنواتٍ طويلةً بدأتْ في عام 1994؛ عندما ذهبتُ إلى العراق للدراسة، فوجدت فيهم العلماء والفنانين والمثقفين والأدباء...الخ، حينها أدركتُ لماذا تميّزُ بكلِّ هذا العطاء، وكيف استطاع أن يعيش في أصعب الظروف وأحلكها.
 
هذه الأرضُ التي يقطنُها كثيرٌ من القوميات المهمة والعريقة ولَّادةٌ، سوف تنتجُ العباقرة والعلماء، وقدْ رأيْنا كيف أنّ الشباب العراقي يتحرّكُ اليومُ ليستعيدَ تلك الأمجاد، ويجسِّدَ هذه القوةَ الكامنةَ فيه على أرض الواقع.
 
وأخيراً: أتمنّى من كلّ قلبي أن أرى العراق معافًى ومستقل الإرادة، وأن يحظى شبابه بثقةِ ودعمِ قادته الْمُخْلَصِينَ ، وعندها نكتشفُ الشخصيةَ العراقيةَ الحقيقةَ.'
تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل الخبر