آيدولوجيا ما بعد كورونا

2020-04-02

 آيدولوجيا ما بعد كورونا

 الدكتور احسان الامين 


 

د. احسان الامين

بيت الحكمة

كثر الحديث عن عالم ما بعد كورونا سياسيا واقتصاديا وما تتركه أزمة كورونا من بصمات على اوضاع العالم من تغيير على مستوى الستراتيجيات الحاكمة  في الأوضاع الدولية وضمور وظهور علاقات ومعادلات تبرز نوعا جديدا من التحالفات والتوازنات بعدما فشلت قوى كبرى في احتواء الازمة وتلكأت أخرى عن الوفاء بالتزاماتها، كما أظهرت الأزمة هشاشة الاقتصاديات العالمية في توفير الحد الأدنى من الضرورات اللازمة لإدامة الحياة الإنسانية ففشلت دول ذات ميزانيات ترليونية وصمدت دول عادية فانكشفت عورات كانت مختبأة خلف زخرف القول وبروغاندا الميديا وصيت الغنى

ولكن الموضوع الأكثر أهمية والتي يتطلب مزيدا من البحث والمراجعة هو الإخفاقات والإرهاصات في مجال الآيدولوجيات والماورائيات التي تشكل التوجهات العالمية اليوم وتترجم سلوكياتها الذاتية والبينية.
لقد صحا العالم غداة القرن العشرين على صراع الآيدولوجيات التي قسمت العالم الى شرقي وغربي تحت عناوين الاشتراكية والرأسمالية، والتي كان كل منها يغني على ليلى المستقبل البشري ليبشّر بحتمية تأريخية نسج خيوطها وفق عقيدته : بين من يتحدث عن مجتمع البروليتارية اللطبقي والذي تختفي فيه البرجوازية والملكية الفردية ،وآخر يحدد "نهاية العالم" في منظومته الليبرالية، والتي ترى في  أميركا الجنة الموعودة التي حلم بها المصلحون وهرول إليها الناس من كل مكان.
وغفا الناس نهاية القرن العشرين والآيدولوجيات وبعد مخاضات عسيرة تنقلب على نفسها بما يشبه " الثورة المضادة"، فهذه كبريات الأنظمة الماركسية باتت تضخّم الرأسماليات وتدخل الشركات الاحتكارية بلادها من أوسع أبوابها، وها هي الدول الليبرالية تسير بديمقراطيتها المزعومة نحو المزيد من الشوفينية والعنصرية والتطرف لتكون شريكة لأكثر الأنظمة استبدادا ولتزيد نار الحروب والابادة هنا وهناك وقودا واشتعالا ، فيصرخ من توهم "نهاية التاريخ : 1992 The  End of History and the Last Man" ليكتب عن "نهاية النظام The End of Order 1997"في العالم الجديد ، ثم يتحدث بعدها  عن نهاية الديمقراطية في عهد ما بعد انتخابات 2016 الذي مسخ كل قيمة مدعاة ليبيعها مقابل حفنة من الدولارات.
لقد غدا العالم غداة القرن الحادي والعشرين بعقيدة وآيدولوجية واحدة هي النفعية الأنانية ،والتي تلبست بلبوس جديدة تحت عناوين البراغماتية والمصلحة الذاتية حينا،وأحيانا:المصلحة القومية والوطنية، و تحت مسميات جذبت الجماهير التي تعبت من الشعارات الثورية والتي كلفتها المزيد من التضحيات والمعانات دون جدوى.
وغزا العالم فكر لا يرى إلا مصلحته الذاتية ، وإنسان لا يعيش إلا لنفسه ، لتغيب وتضيع كل القيم الانسانية والأخلاقية القائمة على أساس الأخوة الآدمية والعيش المشترك ، وليعود العالم الى حلبة تتصارع فيه الدول والأمم، بل الأمم مع الأقربين والأبعدين تحت عنوان صراع البقاء "المشروع" براغماتيا،  وكل يقول: أنا أولا ، دون أن يكون ل (نحن) وجود حقيقي في عالم ترتكز فيه المواقف على أساس المصالح لا المبادئ والأخلاقيات.
لقد نسيت كل الوصايا لموسى وعيسى ومحمد، وأضحت حكايا تقرأ في كتب التأريخ كتأريخ أو في كتب الدين والإلهيات للحصول على درجة في الامتحان المدرسي ،لا الامتحان الحياتي، وصولا الى النفع الذاتي والمصالح الخاصة مرة أخرى،بما يشبه عمليات التدوير في الاقتصاد أو الطاقة.
من منا أصبح " يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
هذه الأنا الطاغية هي التي جعلت اتفاقية المناخ العالمية والتي تحاول أن تحفظ مستقبل الحياة على الأرض: حبرا على ورق ، ترفضها جهاراً إقتصاديات كبرى ولا تعمل بها سرا أخرى، لأن الشحّ الأناني والنفعي المقيت هو الذي يعبد و ويتبع دون القيم الأخلاقية.
 
 
انظروا الى التحالفات الكبرى التي اجتمعت فيها دول متمدنة عديدة، لا لتنقذ العالم من فقر يجتاح ثلثي سكانه أو وباء يفتك بأبنائه ، ولكن من أجل شنّ حرب هنا وهنا وغزو بلد هنا وهناك دون أن تتم المساءلة عن الدماء التي أريقت والديار التي دمرت والحياة التي أبيدت!!
 
كورونا أزاحت ورقة التوت التي استترت بها الآيدولوجية الحاكمة قبل 2020 لتثبت للبشرية أن قيمتها في آدميتها، وأن الناس أبناء أسرة واحدة ؛لا يمكن أن يعيشوا بسلام من دون أخلاق أو قيم إنسانية.
 
                                                                                 
 

 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل الخبر